خلفية نظرية مبسطة: القاعدة الاقتصادية وقاعدة التصدير
- د. علي التواتي
- Jun 13, 2023
- 6 min read
Updated: Jun 23, 2023
يعامل الإنفاق الحكومي وفق المدخل الكينزي للنمو وكأنه مولد كهربائي احتياطي خارج عن الشبكة العامة ولكنه موصل بها ليعمل تلقائيا عند انقطاع التيار ليصبح القوة الدافعة أو المحركة أو أنه يعمل عند ضعف التيار ونزوله تحت مستوى معين ليصبح حينها بمثابة القوة المحفزة أو المنشطة
بنيت معظم التجارب التنموية على نظرية اقتصادية معروفة وضع أساسها الاقتصادي الإنجليزي الشهير كينز Keynes وتبناها من بعده تلامذة مدرسته المعروفين باسم الكينزيين المحدثين Post – Keynesians أو الدعاة إلى التنمية من جانب الطلب Demand Side Growth Advocates والذين يفترضون بأن قيم معدل الادخار المحلي ومعدل الواردات معطاة ومعروفة وهي في ذلك مثلها مثل معدل المدخلات بالنسبة للمخرجات (المدخلات/المخرجات) بافتراض أن معدل الادخار هو مقدار ثابت من الدخل. وبالتالي، فإن النمو في الاقتصاد ، أي اقتصاد حر ينتج عن هزة أو خلل Distortion في نظام السوق. ويجب أن تكون هذه الهزة من قوة خارجية ليست من قوى السوق في اقتصاد معين، ولكنها تؤدي إلى ارتفاع الطلب على منتجات ذلك الاقتصاد .
وقد تأتي الهزة المنشودة من أنفاق حكومي (بافتراض أن الحكومة ليست من قوى السوق) أو من ازدياد الطاقة التصديرية من سلعة أو خدمة مطلوبة نتيجة لفتح تقني جديد في طرق الإنتاج، أو انفتاح أسواق جديدة، أو كارثة طبيعية أو حرب تزيد الطلب على منتجات معينة أو أي سبب آخر. المهم هو أن تحدث الهزة المنشودة أثراً إيجابياً على الطلب فترفعه وتزيد دخل عناصر الإنتاج المحلية من مصادر خارجية. ولكن نظراً لان الفتوح التقنية لم تعد فجائية أو مبهرة كما كانت في الماضي، والأسواق العالمية سواء منها القديمة أو الحديثة تشتد فيها المنافسة بين العديد من المنتجين خاصة في عصر الاقتصاد الرقمي الذي نعيشه الان، يبقى الإنفاق الحكومي هو العامل الحاسم والمقود الذي يوجه عربة الإنتاج نحو الوجهة التي يراها صنّاع القرار الاقتصادي.

وفي ظل نظرية الكينزيين المحدثين يجب النظر للإنفاق الحكومي وكأنه مولد كهربائي احتياطي خارج عن الشبكة العامة ولكنه موصل بها ليعمل تلقائيا عند انقطاع التيار ويكون في هذه الحالة بمثابة القوة الدافعة أو المحركة أو أنه يعمل عند ضعف التيار ونزوله تحت مستوى معين ويكون في هذه الحالة بمثابة القوة المحفزة أو المنشطة .ودون الخوض في خلفيات هذه النظرية وما لها وما عليها، كل ما يهمنا هنا هو أنها أصبحت الأساس العلمي السهل والمقبول الذي بنيت عليه خطط التنمية لكثير من الدول والمناطق والمدن وحتى الأحياء والأجزاء الصغيرة من الأحياء. بل يمكن ان نتدرج نزولاً في إمكانيات تطبيق هذه النظرية حتى نصل لمستوى العائلة او الفرد الواحد، وهذا ما ينشده المخططون.

فالمخططون في أي نظام اقتصادي عندما ينشدون رفع المستوى الاقتصادي للمواطن، لابد أن يطبقوا سياسات اقتصادية تطويرية تزيد من القيمة الإجمالية للعمل والسلع والخدمات التي ينتجها ويصدرها. هذه النشاطات الاقتصادية التي تصدر أو تجلب النقود لمنتجيها تسمى نشاطات القاعدة الاقتصادية Economic Base Activities ومنها نشاطات القاعدة التصديرية Export Base. والقاعدة الاقتصادية هي مجموعة الأنشطة التي تولد دخلاً لمنطقة ما من خلال انتاج السلع والخدمات من مصادر محلية او خارجية، أما القاعدة التصديرية فهي مكون رئيسي من مكونات القاعدة الاقتصادية الى جانب المكونات المحلية. وتشمل القاعدة التصديرية الصناعات التي تولد السلع والخدمات التي يمكن تصديرها الى غير منتجيها خارج مكان انتاجها لتجلب دخلا لعناصر الإنتاج في القاعدة الاقتصادية التي انتجت فيها من مصادر خارجية. فالفرق بين القاعدة الاقتصادية والقاعدة التصديرية هو أن القاعدة الاقتصادية تشمل كافة النشاطات الاحلالية والتصديرية وكافة التاثيرات المباشرة للإنتاج بمختلف اشكاله او وجهاته، في حين ان القاعدة التصديرية تشمل التأثيرات المباشرة للتصدير. وعلى سبيل المثال، إذا كانت منطقة ما تنتج وتصدر السيارات، فإن صناعة السيارات تعتبر جزءًا من كل من القاعدة الاقتصادية والقاعدة التصديرية. ومع ذلك، إذا ما كانت صناعة السيارات تشتري أيضًا مدخلات من صناعات محلية أخرى ضمن القاعدة الاقتصادية، مثل الجلود أو الزجاج، فإن تلك الصناعات تعتبر جزءًا من القاعدة الاقتصادية، ولكن ليست جزءًا من القاعدة التصديرية. فالقاعدة الاقتصادية هي مجموعة الأنشطة التي تولد دخلاً لمنطقة ما من خلال تصدير السلع والخدمات إلى مناطق أخرى او تحل صناعات جديدة تغني عن استيراد منتجات او خدمات يتم استيرادها سابقاً، أما القاعدة التصديرية فهي المكون من مكونات القاعدة الاقتصادية الذي يتألف من الصناعات التي تولد السلع والخدمات التي يمكن تصديرها للخارج فعلاً. وعليه فلا بد من التركيز على توسيع القاعدة الاقتصادية من جهة بإحلال سلع وخدمات بديلة للسلع والخدمات المستوردة لان الاستيراد يعتبر تسريباً للنقود من النظام المحلي للخارج، ولا بد من جهة أخرى، من التركيز على زيادة القيمة الإجمالية للصادرات بتطبيق نوعين من السياسات الاقتصادية، أولاهما: سياسة تنمية الأعمال التي تتضمن زيادة القيمة الإجمالية للسلع والخدمات المصدرة إما بزيادة كميتها أو بتخفيض تكاليف إنتاجها ، وثانيتهما: سياسة تنمية الإنتاجية وتعزيز الطاقة البشرية والتكنولوجية التي تتضمن زيادة القيمة الكلية من مردود عمالة السكان المحليين المصدرة أو العاملة في نشاطات تصديرية إما بزيادة حجمها أو بزيادة إنتاجيتها، او تعزيز تكنولوجيا المعدات الرأسمالية التي تعمل عليها او استبدالها بمعدات اكثر تقدماً وانتاجية وأقل تكلفة.
واذا ما نظرنا حولنا، نجد أن العديد من الدول العربية طبقت سياسات متعددة لتعزيز اعادة الصادرات وليس الصادرات، ومعظمها منبثق من "الفكر الريعي"، بمعنى المشاركة في جني الثمار وتكديس الأموال في أيد قليلة، دون التدخل في العملية الإنتاجية وتوظيف الموارد المحلية. فعلى سبيل المثال تم انشاء المناطق الحرة المفتوحة او الثنائية او المغلقة التي تملكها حكومات او شركات يملكها افراد متنفذين في بعض الدول تهدف لــ"اعادة التصدير"، دون التركيز على توسيع القاعدة الاقتصادية ذاتها. بل ان تأثيرات تلك المناطق الحرة على القاعدة الاقتصادية المحلية كان سلبياً للغاية بالتعلق بالقشور بدلاً من الجوهر، مثل كتابة اسماء الدول المضيفة على منتجات الشركات العالمية كدول منشأ، ما تسبب في قتل الصناعات المحلية "الطفلة" في مهدها، وأدى الى ظهور ارقام نمو اقتصادي وهمي في حسابات النواتج المحلية الوطنية بسبب إضافة نواتج الشركات الأجنبية اليها.
والمؤسف في مدخل المناطق الحرة الريعي المخصصة لإعادة التصدير الذي توسعت فيه عدة دول من دول الإقليم، يتمثل في عدم اقتصار اضراره على الدول التي تبنته، بل امتد لكافة الدول المستهدفة بمنتجات تلك المناطق الحرة غير المراقبة، وذلك بإغراق أسواقها بالمنتجات المقلدة، والمواد الغذائية والأدوية الفاسدة، ما اضطر تلك الدول المستهدفة في النهاية لفرض تعرفات جمركية حمائية عالية، وفرض مواصفات ومقاييس دقيقة، واتباع سياسات صارمة أخرى لصيانة بيئتها الاقتصادية، وحماية صحة وسلامة مواطنيها. وبذلك تسببت تلك الدول التي سعت للكسب الريعي السريع في أجهاض كافة جهود التكامل الإقليمي بين دول الإقليم التي اضطرت للبحث عن شراكات عالمية جديدة بناءة مع دول وشركات عالمية أخرى بعيدة عن الشرق الأوسط.
الاستثناء الوحيد والتجربة الجديرة بالاهتمام في الإقليم في بناء وتعزيز قاعدة اقتصادية حقيقية قادرة على استيعاب الموارد المحلية والأجنبية وقادرة على التصدير هي التجربة السعودية المرتكزة على رؤية (٢٠٣٠). فقد صممت لتوظيف الموارد المحلية، وبناء شراكات عالمية ذات مردود مباشر على الأرض والانسان. وارتكزت إمكاناتها التصديرية على ست ركائز رئيسية هي:
بنك التصدير والاستيراد السعودي: تأسس في 18 فبراير عام 2020م، برأس مال قدره 30 مليار ريال، لتمويل وتأمين الصادرات السعودية، ورفع مستوى قدراتها التنافسية.
هيئة تنمية الصادرات السعودية: هيئة حكومية بدأت نشاطاتها عام 1434هـ – 2013م، بهدف تمويل وزيادة الصادرات السعودية غير النفطية والانفتاح على الأسواق العالمية.
المدن الاقتصادية والمناطق الخاصة: تنتشر جغرافياً على مختلف مناطق المملكة مترامية الأطراف في مواقع مختارة بعناية، وتهدف لتنويع وتطوير الاقتصاد السعودي، وفتح آفاق جديدة للتنمية على أسس تنافسية لكل منطقة، وتحسين البيئة الاستثمارية بما يعزز مكانة البلاد كوجهة استثمارية عالمية رائدة. وتتضمن بعض هذه المدن أربع مناطق اقتصادية خاصة بمواقع استراتيجية اعلن ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء عن انشائها في كل من: الرياض وجازان، ورأس الخير، ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية شمالي مدينة جدة. ويتوقع أن تفتح المناطق الاقتصادية الخاصة آفاقاً جديدة للتنمية، معتمدة على المزايا التنافسية لكل منطقة، لدعم القطاعات الحيوية الواعدة، ومنها اللوجيستية والصناعية والتقنية وغيرها من القطاعات ذات الأولوية للبلاد. وتتيح المناطق الخاصة السعودية ملكية كاملة للمستثمرين الأجانب الذين يختارون التوطن والإنتاج فيها.
توطين المقرات الإقليمية للشركات العالمية: برنامج اقره مجلس الوزراء السعودي مؤخراً لتشجيع الشركات متعددة الجنسيّات التي تستقر في اقليم الشرق الأوسط، وتستهدف المملكة العربية السعودية بمنتجاتها وخدماتها لنقل مقراتها الاقليمية والتوطن داخل المملكة من خلال برنامج تشترك فيه ٢٥ هيئة حكومية سعودية وتشرف عليه وزارة الاستثمار مع الهيئة الملكية لتطوير مدينة الرياض، بهدف تقديم الدعم والإدارة والتوجيه الاستراتيجي لفروعها والشركات التابعة لتلك الشركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الهيئة العامة للمنشئات الصغيرة والمتوسطة: وهي هيئة حكومية معنية بتطوير ودعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة عبر قيادة التعاون مع الشركاء الإستراتيجيين في القطاعين العام والخاص والثالث (الهيئات والجمعيات غير الحكومية) محليًا ودوليًا، إضافة إلى تنويع مصادر الدعم المالي للمنشآت، وتحفيز مبادرات قطاع رأس المال الجريء، ووضع السياسات والمعايير للتمويل، وتقديم الدعم الإداري والفني للمنشآت
الحماية الجمركية والحماية من الإغراق: على اثر ثبوت لجوء بعض المنتجين الأجانب بإغراق السوق السعودية بمختلف المنتجات الزراعية والمتنوعة التي تفتقر للجودة والالتزام بمعايير الجودة والمواصفات المحلية والعالمية، اضطرت هيئة الزكاة والضريبة والجمارك السعودية لفرض تعرفات مختلفة قبل ان تبدأ اعتباراً من ١ يناير ٢٠٢٣م في تطبيق نظام جديد عرف بمسمى "النظام المنسق للتعرفة الجمركية المتكاملة". وذلك لحماية المنتج المحلي بموجب الرزنامة الزراعية للمنتجات الزراعية، وتشجيع المنتجات المحلية الأخرى على النمو والتمكن دون مزاحمة أو اغراق من المنتجين الأجانب.
ولقد بدأت بشائر النجاح في زيادة الصادرات السعودية غير النفطية من أنشطة "القاعدة الاقتصادية المحلية" بحسب بيانات الهيئة السعودية العامة للإحصاء، بتسجيل المملكة لرقم قياسي جديد في صادراتها غير النفطية عام 2022، لتتخطى ٢٦٥،٧ مليار ريال "٧١ مليار دولار" مقارنة بــ ١٥٧،٧مليار ريال "٤٢ مليار دولار" في ٢٠١٥م، بمتوسط نمو يصل الى ١٠٪ سنوياً، رغم تباطؤ النمو في الاقتصاد العالمي وارتفاع مستويات التضخم.






